فصل: من فوائد ابن عاشور في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والصنف الرابع: الصالحون تولاهم الله تعالى بالصلاح وهم الذين لا يدخل في علمهم بالله تعالى ولا إيمانهم به وبما جاء من عنده سبحانه خلل فإذا دخله بطل كونه صالحًا وكل من لم يدخله خلل في صديقيته فهو صالح، ولا في شهادته فهو صالح، ولا في توبته فهو صالح، ولكل أحد أن يدعو بتحصيل الصلاح له في المقام الذي يكون فيه لجواز دخول الخلل عليه في مقامه لأن الأمر اختصاص إلهي وليس بذاتي فيجوز دخول الخلل فيه، ويجوز رفعه، فصح أن يدعو الصالح بأن يجعل من الصالحين أي الذين لا يدخل صلاحهم خلل في زمان مّا، وقد ذكر أنه ما من نبي إلا وذكر أنه صالح أو أنه دعا أن يكون من الصالحين مع كونه نبيًا، ومن هنا قيل: إن مرتبة الصلاح خصوص في النبوة وقد تحصل لمن ليس بنبي ولا صديق ولا شهيد.
هذا ما وقفت عليه من كلام القوم قدس الله تعالى أسرارهم، ولم أظفر بالتفصيل الذي ذكره مولانا الشيخ قدس سره فتدبر، وقد ذكر أصحابنا الرسميون أن الصديق صيغة مبالغة كالسكير بمعنى المتقدم في التصديق المبالغ في الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال، ويطلق على كل من أفاضل أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأماثل خواصهم كأبي بكر رضي الله تعالى عنه، وأن الشهداء جمع شهيد، والمراد بهم الذين بذلوا أرواحهم في طاعة الله تعالى وإعلاء كلمته وهم المقتولون بسيف الكفار من المسلمين، وقيل: المراد بهم هاهنا ما هو أعم من ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم: إن شهداء أمتي إذًا لقليل من قتل في سبيل الله تعالى فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات مبطونًا فهو شهيد» وعد بعضهم الشهداء أكثر من ذلك بكثير، وقيل: الشهيد هو الذي يشهد لدين الله تعالى تارة بالحجة والبيان، وأخرى بالسيف والسنان، وزعم النيسابوري أنه لا يبعد أن يدخل كل هذه الأمة في الشهداء لقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس} [البقرة: 143] وليس بشيء كما لا يخفى، وأن المراد بالصالحين الصارفين أعمارهم في طاعة الله تعالى وأموالهم في مرضاته سبحانه، ويقال: الصالح هو الذي صلحت حاله واستقامت طريقته.
والمصلح هو الفاعل لما فيه (الصلاح) قال الطبرسي: ولذا يجوز أن يقال: مصلح في حق الله تعالى دون صالح، وليس المراد بالمعية اتحاد الدرجة ولا مطلق الاشتراك في دخول الجنة بل كونهم فيها بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وزيارته متى أراد وإن بعدت المسافة بينهما، وذكر غير واحد أنه لا مانع من أن يرفع الأدنى إلى منزلة الأعلى متى شاء تكرمة له ثم يعود ولا يرى أنه أرغد منه عيشًا ولا أكمل لذة لئلا يكون ذلك حسرة في قلبه، وكذا لا مانع من أن ينحدر الأعلى إلى منزلة الأدنى ثم يعود من غير أن يرى ذلك نقصًا في ملكه أو حطًا من قدره.
وقد ثبت في غير ما حديث أن أهل الجنة يتزاورون، وادعى بعضهم أن لا تزاور مع رؤية كل واحد الآخر، وذلك لأن عالم الأنوار لا تمانع فيها ولا تدافع فينعكس بعضها على بعض كالمرايا المجلوة المتقابلة، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {إِخْوَانًا على سُرُرٍ متقابلين} [الحجز: 47] وزعم أنه التحقيق وهو بعيد عنه، وأبعد من ذلك بمراحل ما قيل: يحتمل أن يكون المراد أن معنى كون المطيع مع هؤلاء أنه معهم في سلوك طريق الآخرة فيكون مأمونًا من قطاع الطريق محفوظ الطاعة عن النهب.
{وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} أي صاحبًا، وهو مشتق من الرفق، وهو لين الجانب واللطافة في المعاشرة قولًا وفعلًا، والإشارة يحتمل أن تكون إلى النبيين ومن بعدهم وما فيها من معنى البعد لما مرّ مرارًا و{رَفِيقًا} حينئذٍ إما تمييز أو حال على معنى أنهم وصفوا بالحسن من جهة كونهم رفقاء للمطيعين، أو حال كونهم رفقاء لهم ولم يجمع لأن فعيلًا يستوي فيه الواحد وغيره أو اكتفاءًا بالواحد عن الجمع في باب التمييز لفهم المعنى، وحسنه وقوعه في الفاصلة؛ أو لأنه بتأويل حسن كل واحد منهم أو لأنه قصد بيان الجنس مع قطع النظر عن الأنواع، ويحتمل أن تكون إلى من يطع والجمع على المعنى فـ {رَفِيقًا} حينئذٍ تمييز على معنى أنهم وصفوا بحسن الرفيق من الفرق الأربع لا بنفس الحسن، فلا يجوز دخول من عليه كما يجوز في الوجه الأول.
والجملة على الاحتمالين تذييل مقرر لما قبله مؤكد للترغيب والتشويق، وفي [الكشاف] فيه معنى التعجب كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقًا ولاستقلاله بمعنى التعجيب قرئ {وَحَسُنَ} بسكون السين يقول المتعجب: حسن الوجه وجهك، وحسن الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين. انتهى.
وفي [الصحاح] يقال: حسن الشيء وإن شئت خففت الضمة فقلت: حسن الشيء، ولا يجوز أن تنقل الضمة إلى الحاء لأنه خبر، وإنما يجوز النقل إذا كان بمعنى المدح أو الذم لأنه يشبه في جواز النقل بنعم وبئس، وذلك أن الأصل فيهما نعم وبئس فسكن ثانيهما، ونقلت حركته إلى ما قبله وكذلك كل ما كان في معناهما قال الشاعر:
لم يمنع الناس مني ما أردت وما ** أعطيهم ما أرادوا حسن ذا أدبا

أراد حسن هذا أدبًا فخفف ونقل، وأراد أنه لما نقل إلى الإنشاء حسن أن يغير تنبيهًا على مكان النقل، وفي [الإرتشاف]: إن فعل المحول ذهب الفارسي.
وأكثر النحويين إلى إلحاقه بباب نعم وبئس فقط، وإجراء أحكامه عليه، وذهب الأخفش والمبرد إلى إلحاقه بباب التعجب، وحكى الأخفش الاستعمالين عن العرب، ويجوز فيه ضم العين وتسكينها ونقل حركتها إلى الفاء، وظاهره تغاير المذهبين، وفي [التسهيل] إنه من باب نعم وبئس وفيه معنى التعجب، وهو يقتضي أن لا تغاير بينهما وإليه يميل كلام الشيخين فافهم، والحسن عبارة عن كل مبهج مرغوب إما عقلًا أو هوى أو حسًا، وأكثر ما يقال في متعارف العامة في المستحسن بالبصر، وقد جاء في القرآن له وللمستحسن من جهة البصيرة.
{ذلك} إشارة إلى ما ثبت للمطيعين من جميع ما تقدم، أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم ومزيتهم وهو مبتدأ، وقوله سبحانه: {الفضل} صفة، وقوله تعالى: {مِنَ الله} خبره أي ذلك الفضل العظيم كائن من الله تعالى لا من غيره، وجوز أبو البقاء أن يكون {الفضل} هو الخبر، و{مِنَ الله} متعلق بمحذوف وقع حالًا منه؛ والعامل فيه معنى الإشارة، ويجوز أن يكون خبرًا ثانيًا أي ذلك الذي ذكر الفضل كائنًا، أو كائن من الله تعالى لا أن أعمال العباد توجبه {وكفى بالله عَلِيمًا} بثواب من أطاعه وبمقادير الفضل واستحقاق أهله بمقتضى الوعد فثقوا بما أخبركم به {وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]. وقيل: وكفى به سبحانه عليمًا بالعصاة والمطيعين والمنافقين والمخلصين ومن يصلح لمرافقة هؤلاء ومن لا يصلح.

.من فوائد ابن عاشور في الآيتين:

قال رحمه الله:
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ}
تذييل لجملة: {وإذن لآتيناهم من لدنّا أجرًا عظيمًا} [النساء: 67] وإنّما عطفت باعتبار إلحاقها بجملة: {ومن يطع الله والرسول} على جملة {ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به} [النساء: 66].
وجيء باسم الإشارة في جملة جواب الشرط للتنبيه على جدارتهم بمضمون الخبر عن اسم الإشارة لأجل مضمون الكلام الذي قبل اسم الإشارة.
والمعيّة معيّة المنزلة في الجنة وإن وإن كانت الدرجات متفاوتة.
ومعنى {من يطع} من يتّصف بتمام معنى الطاعة، أي أن لا يعصي الله ورسوله.
ودلّت {مع} على أنّ مكانة مدخولها أرسخ وأعرف، وفي الحديث الصحيح «أنت مع من أحببت».
والصديّقون هم الذين صدَّقوا الأنبياء ابتداء، مثل الحواريين والسابقين الأوّلين من المؤمنين.
وأمّا الشهداء فهم من قُتلوا في سبيل إعلاء كلمة الله.
والصالحون الذين لزمتهم الاستقامة.
و{حَسُنَ} فعل مراد به المدح ملحق بنعم ومضمّن معنى التعجّب من حسنهم، وذلك شأن فَعُل بضم العين من الثلاثي أن يدلَّ على مدح أو ذمّ بحسب مادّته مع التعجّب.
وأصل الفعل حَسَنَ بفتحتين فحوّل إلى فعُل بضمّ العين لقصد المدح والتعجّب.
و{أولئك} فاعل {حسن}.
و{رفيقا} تمييز، أي ما أحسنهم حسنوا من جنس الرفقاء.
والرفيق يستوي فيه الواحد والجمع، وفي حديث الوفاة «الرفيقَ الأعلى».
وتعريف الجزأين في قوله: {ذلك الفضل من الله} يفيد الحصر وهو حصر إدعائيُّ لأنّ فضل الله أنواع، وأصناف، ولكنّه أريد المبالغة في قوّة هذا الفضل، فهو كقولهم: أنت الرجل.
والتذييل بقوله: {وكفى بالله عليمًا} للإشارة إلى أنّ الذين تلبّسوا بهذه المنقبة، وإن لم يعلمهم الناس، فإنّ الله يعلمهم والجزاء بيده فهو يوفيّهم الجزاء على قدر ما علم منهم، وقد تقدّم نظيره في هذه السورة. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}.
الْآيَةُ فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ أَشْبَهُهَا مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ «رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَحْزُونٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لِي أَرَاك مَحْزُونًا؟ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، نَحْنُ نَغْدُو عَلَيْكَ وَنَرُوحُ نَنْظُرُ فِي وَجْهِكَ وَنُجَالِسُكَ، وَغَدًا تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ، فَلَا نَصِلُ إلَيْكَ؛ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ فَبَعَثَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُهُ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يَصِفُ الْمَدِينَةَ وَفَضْلَهَا، يُبْعَثُ مِنْهَا أَشْرَافُ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَحَوْلَهَا الشُّهَدَاءُ أَهْلُ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ، ثُمَّ تَلَا مَالِكٌ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ عَلِيمًا}؛ يُرِيدُ مَالِكٌ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} هُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا، فَبَيَّنَ بِذَلِكَ فَضْلَهُمْ، وَفَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْبِقَاعِ: مَكَّةَ وسِوَاهَا، وَهَذَا فَضْلٌ مُخْتَصٌّ بِهَا، وَلَهَا فَضَائِلُ سِوَاهَا بَيَّنَّاهَا فِي قَبَسِ الْمُوَطَّأِ، وَفِي الْإِنْصَافِ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ؛ فَلْيُنْظَرْ فِي الْكِتَابَيْنِ. اهـ.

.من فوائد ابن القيم:

قال عليه الرحمة:
فصل في مراتب المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها:
وهم ثمان عشرة طبقة:
الطبقة الأولى: وهى العليا على الإطلاق مرتبة الرسالة، فأكرم الخلق على الله وأخصهم بالزلفى لديه رسله، وهم المصطفون من عباده الذين سلم عليهم في العالمين كما قال تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 181]، وقال تعالى: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ في الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79]، وقال تعالى: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيم كذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 109- 110]، {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130]، وقال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59].
الطبقة الثانية: من عداهم من الرسل على مراتبهم من تفضيل الله بعضهم على بعض.
الطبقة الثالثة: الذين لم يرسلوا إلى أُممهم وإنما كانت لهم النبوة دون الرسالة، فاختصوا عن الأُمة بإيحاء الله إليهم، وإْرساله ملائكته إلَيْهِمْ واختصت الرسل عنهم بإرسالهم إلى الأُمة بدعوتهم إلى الله بشريعته وأمره، واشتركوا في الوحى ونزول الملائكة عليهم.